التوكتوك في الإسكندرية: ضجيج الفوضى أم مصدر الرزق؟ جدل يمزق عروس البحر الأبيض
تخيل أنك تتجول في شوارع الإسكندرية، "عروس البحر الأبيض المتوسط"، بتاريخها العريق وشواطئها الساحرة، تتوقع أن تستقبلك نسمات البحر المنعشة وهدوء يشي بعظمة الماضي. لكن، وبدلاً من ذلك، قد تجد نفسك محاطًا بضجيج محركات صغيرة، وألوان صارخة لمركبات ثلاثية العجلات تتراقص ببراعة خطرة أحيانًا بين السيارات الفارهة والحافلات المكتظة. إنه "التوكتوك"، الظاهرة التي غزت شوارع المدينة الساحلية، وأصبحت محور جدل لا ينتهي، يقسم أهلها بين فريق يراه سرطانًا ينهش جسد المدينة، وآخر يعتبره مصدر رزق لا غنى عنه.
الوجه الأول للعملة: التوكتوك.. كابوس يهدد أمن الإسكندرية وجمالها
في أحد أزقة "كوم الدكة" العتيقة، أو ربما في شارع جانبي بمنطقة "سيدي بشر" المزدحمة، قد تسمع صوت سيدة تصرخ مستغيثة بعد أن خطف أحدهم حقيبتها وهو يمتطي توكتوكًا انطلق بسرعة البرق واختفى بين الأزقة الضيقة. هذه ليست مجرد حكاية عابرة، بل أصبحت مشهدًا يتكرر، يغذي مخاوف الفريق الرافض لوجود هذه المركبة.
يرى هؤلاء أن التوكتوك، الذي ظهر كوسيلة مواصلات خفيفة في المناطق الشعبية، تحول إلى "وحش" خارج عن السيطرة. حجتهم الأولى والأقوى هي الجريمة. يقولون إن سهولة الحركة والهرب بالتوكتوك، خاصة في ظل غياب لوحات معدنية مرخصة لأغلبها، جعلته الأداة المفضلة لضعاف النفوس في ارتكاب جرائم السرقة بالإكراه، خطف الحقائب، بل وحتى ترويج المخدرات. "لقد أصبح التوكتوك مرادفًا للخوف في كثير من الأحياء"، يقول الحاج "سعيد"، صاحب محل بقالة في منطقة "العوايد"، ويضيف بمرارة: "كنا نترك أبوابنا مفتوحة، الآن نخشى على بضاعتنا وعلى أنفسنا من هؤلاء الشباب المتهور الذي يقود بلا ضوابط".
النقطة الثانية في جعبة الرافضين هي غياب التراخيص والانضباط. فغالبية سائقي التكاتك، كما يرون، يعملون بلا أي أوراق ثبوتية للمركبة أو رخصة قيادة شخصية. وهذا يفتح الباب على مصراعيه للفوضى. "كيف تسمح الدولة بمركبة تجوب الشوارع دون أن نعرف من مالكها ومن سائقها؟" يتساءل مهندس معماري يقطن في "سموحة"، ويضيف: "إنها كارثة مرورية وأمنية مكتملة الأركان".
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد ليشمل سلوكيات السائقين. يتهم هذا الفريق قطاعًا كبيرًا من سائقي التكاتك بالبلطجة، والقيادة برعونة، وعدم احترام قواعد المرور، بل ويتهمون بعضهم بتعاطي الخمور والمخدرات أثناء العمل، مما يجعل الركاب والمشاة عرضة للخطر الدائم. "تراهم يسيرون عكس الاتجاه، يقطعون الإشارات، ويتسببون في حوادث يومية دون أي محاسبة"، تشكو طالبة جامعية تستقل المواصلات العامة يوميًا.
أما التشويه الحضاري، فهو جرح آخر ينكأه التوكتوك في قلب الإسكندرية. فعروس البحر، التي تغنى بجمالها الشعراء، أصبحت ترى شوارعها الرئيسية، وحتى كورنيشها الشهير، موبوءة بهذه المركبات التي يعتبرونها دخيلة على مظهرها الأنيق. "ألوانها الصارخة، أصوات أبواقها المزعجة، وتوقفها العشوائي في أي مكان، كل هذا يشوه الصورة الجمالية للمدينة التي نفخر بها"، يقول فنان تشكيلي سكندري بحسرة.
وأخيرًا، يرى هذا الفريق أن التوكتوك تسبب في هجرة العمالة الماهرة. فالشاب الذي كان يتعلم حرفة كالنجارة أو السباكة أو الميكانيكا، ويحتاج لسنوات ليتقنها ويجني ثمارها، وجد في التوكتوك مصدر دخل سريع وسهل نسبيًا، وإن كان غير مضمون أو آمن. "لقد ترك الكثير من الصنايعية ورشهم ومصانعهم الصغيرة ليقودوا توكتوكًا. خسرنا مهارات كانت عماد الصناعة الصغيرة، وكسبنا جيشًا من السائقين غير المؤهلين"، يحلل خبير اقتصادي هذا التأثير.
الوجه الآخر للعملة: التوكتوك.. باب رزق وضرورة لا يمكن تجاهلها
على الجانب الآخر من هذا الجدل المحتدم، يقف فريق يدافع بشراسة عن التوكتوك، ليس حبًا في الفوضى، ولكن إدراكًا لواقع اجتماعي واقتصادي مرير. بالنسبة لهؤلاء، التوكتوك ليس مجرد مركبة، بل هو مصدر رزق أساسي لآلاف الأسر.
"لو منعوا التوكتوك، من أين أطعم أولادي؟" يقول "أحمد"، شاب في الثلاثين من عمره، يقود توكتوك منذ خمس سنوات بعد أن ضاقت به سبل العيش. يوضح: "أعمل أكثر من 12 ساعة يوميًا لأوفر قوت يوم أسرتي. هذا التوكتوك هو كل ما أملك. الذين يطالبون بإلغائه يجلسون في مكاتب مكيفة ولا يشعرون بمعاناتنا في ظل الغلاء والظروف المعيشية الصعبة".
هذا الفريق يحذر من العواقب الاجتماعية والاقتصادية الوخيمة لإلغاء التوكتوك دون توفير بدائل حقيقية. "تخيل آلاف الشباب، بل والرجال كبار السن، ينضمون فجأة إلى جيش العاطلين. ما الذي تتوقعونه منهم؟ هل سيموتون جوعًا أم سيتجهون إلى طرق أخرى لكسب العيش قد تكون أسوأ؟" تتساءل باحثة اجتماعية، مشيرة إلى أن الحل لا يكمن في المنع القاطع، بل في التنظيم والتقنين.
إضافة إلى كونه مصدر دخل، يعتبر مؤيدو التوكتوك أنه أصبح وسيلة مواصلات ضرورية لا غنى عنها، خاصة في المناطق الشعبية والأزقة الضيقة التي لا تستطيع سيارات الأجرة أو حافلات النقل العام الوصول إليها. "أمي مريضة وتحتاج للذهاب إلى المستشفى بشكل دوري. لولا التوكتوك الذي يأتي حتى باب المنزل في حارتنا الضيقة، لما استطعت نقلها بسهولة"، يقول عامل بسيط يقطن في "غيط العنب".
كبار السن، المرضى، وربات البيوت اللاتي يحملن مشترياتهن، جميعهم يجدون في التوكتوك وسيلة سريعة ورخيصة نسبيًا تصل بهم إلى عتبة دارهم. "سيارة الأجرة غالية، والأتوبيس لا يدخل إلى هنا. التوكتوك هو الحل الأمثل لنا"، تقول سيدة مسنة وهي تستقل توكتوكًا عائدة من السوق.
يرى هذا الفريق أن شيطنة جميع سائقي التكاتك أمر مجحف. "نعم، هناك فئة سيئة، كما في أي مهنة أخرى. لكن الغالبية العظمى هم أناس شرفاء يسعون للقمة العيش الحلال. لماذا يتم تعميم السلبيات على الجميع؟" يتساءل سائق توكتوك آخر، مؤكدًا أن الكثيرين منهم على استعداد للالتزام بالقوانين إذا تم توفير آليات واضحة للترخيص والعمل المنظم.
بين مطرقة الفوضى وسندان الحاجة: هل من مخرج؟
يقف المواطن السكندري، بل والمصري بشكل عام، حائرًا أمام هذا المشهد المعقد. فالتوكتوك، هذا الوافد الصغير، استطاع أن يفرض نفسه بقوة على واقع المدينة، كاشفًا عن تناقضات عميقة بين الحاجة الملحة للعمل والنقل، وبين الرغبة المشروعة في الأمن والنظام والجمال.
هل الحل في المنع التام، كما يطالب البعض، مع ما قد يترتب عليه من بطالة واسعة النطاق وتفاقم للمشكلات الاجتماعية؟ أم أن الحل يكمن في تجاهل المشكلة وترك الحبل على الغارب، لتستفحل الفوضى وتزداد الجريمة وتتشوه صورة المدينة أكثر فأكثر؟
ربما يكمن المخرج في منطقة وسطى، تتطلب جهدًا حقيقيًا من كافة الأطراف. الدولة مطالبة بوضع آليات واضحة وعادلة لتقنين أوضاع التكاتك، وتحديد خطوط سير لها، وتدريب سائقيها، وتطبيق القانون بحزم على المخالفين. والمجتمع مطالب بتغيير نظرته، والتوقف عن شيطنة فئة بأكملها، مع ضرورة الإبلاغ عن أي تجاوزات. وسائقو التكاتك أنفسهم مطالبون بالالتزام، وإدراك أن العمل المنظم هو الضمانة الحقيقية لاستمرار مصدر رزقهم بشكل يحفظ كرامتهم وأمن المجتمع.
إن الجدل حول التوكتوك في الإسكندرية هو في جوهره جدل حول كيفية الموازنة بين الضرورات الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وبين متطلبات الحياة المتحضرة والآمنة من جهة أخرى. إنه سؤال مفتوح، ينتظر إجابات عملية على أرض الواقع، وليس مجرد صرخات استنكار أو تبريرات دفاعية.
والآن، عزيزي القارئ، بعد أن استعرضنا وجهتي النظر، نقف أمامك بهذا التساؤل:
في معركة التوكتوك الدائرة في شوارع الإسكندرية، هل أنت مع المنع الفوري أم مع التقنين المدروس؟ وما هي رؤيتك لحل هذه المعضلة التي تؤرق عروس البحر الأبيض المتوسط؟
شاركنا رأيك، فصوتك قد يكون جزءًا من الحل.
قد يعجبك: سائق تاكسي يطرح مبادرة لاستعادة ثقة الركاب