recent
أحدث الموضوعات

الإسكندر الأكبر والنزعة الكوزموبوليتانية

الصفحة الرئيسية


لقد كان الإسكندر الأكبر قائداً عسكرياً فذاً، وامتدت امبراطوريته الشاسعة لتشمل أغلب أنحاء العالم المعمور في زمانه، ولكن فتوحات الإسكندر وحروبه لم تكن فقط لأغراض سياسية، ولكنها امتدت لتشمل أغراضاً أخلاقية تبناها الإسكندر متأثراً بمعلمه "أرسطو" ؛ ألا وهي توحيد العالم، وترسيخ مبدأ "اللاجنسية" أو "اللاقومية"، أو ما يُعرف اصطلاحاً بـ "الكوزموبوليتية".

سنتناول في هذا المقال تأثير أفكار الإسكندر الأكبر في مصر خلال فترة حكمه هو وخلفائه البطالمة من خلال ثلاثة محاور أساسية:
  1. العلاقات بين مصر وبلاد اليونان قبل غزو الإسكندر لمصر أو ما يُطلق عليه البعض "الفتح المقدوني لمصر". 
  2. مصر في عهد الإسكندر الأكبر.
  3. الكوزموبوليتية؛ هل كانت غاية أخلاقية وسياسية؟

تاريخ العلاقات بين مصر وبلاد اليونان

تثبت العديد من الشواهد التاريخية والأثرية أن العلاقات بين مصر وبلاد اليونان ترجع لأقدم العصور، ويتمثل ذلك في المكتشفات الأثرية في جزيرة "كريت"، والتي تثبت وجود علاقات بين مصر و تلك الجزيرة منذ عصر ما قبل الأسرات، وأن العلاقات بين البلدين تعمقت وتوطدت في عصر الدولة الحديثة لاسيما في عهد الملك "تحتمس الثالث".

ويحدثنا التاريخ أن الإغريق في فترة حكم الأسرة السادسة والعشرين في مصر القديمة قد وفدوا إلى مصر بأعداد كبيرة، إما كجنود مرتزقة للعمل لدى الملك المصري في حروبه ضد الفرس والليبيين، أو كتجار، لاسيما وأن مدينة "نقراطيس" (حالياً كوم جعيف / الجيزة) كانت مركزاً تجارياً كبيراً للتجار الإغريق.

ولا تخلو المصادر الأدبية وعلى رأسها ملحمتا "الإلياذة والأوديسا"  للشاعر اليوناني الأشهر "هوميروس" من إشارات متكررة إلى العلاقة بين مصر وبلاد اليونان، علماً بأن هوميروس قد عاش على الأرجح في الفترة بين 1000 ق.م. إلى 800 ق.م.

كما كانت مصر تصدر القمح إلى بلاد اليونان، ولما كان القمح سلعة استراتيجية، فقد كانت مصر تُرسل إلى "أثينا" سفناً محملة به في أوقات عصيبة من تاريخ هذه الدولة في القرن الخامس قبل الميلاد، وعندما اندلعت الحرب بين "أثينا" و "إسبرطة" على زعامة بلاد اليونان فيما يُعرف بـ "الحروب البلوبونيزية" كانت كلتا المدينتين تعمل قدر المستطاع على منع وصول القمح المصري إلى الأخرى كما يحدثنا "ثوكوديديس" المؤرخ اليوناني الشهير في كتابه عن الحروب البلوبونيزية.

قد تحب أن تقرأ عن الإسكندرية في عصر البطالمة - مدينة متعددة الأعراق

 مصر في عصر الإسكندر

 تبدأ هذه القصة بانتصار الإسكندر الأكبر على الفرس في معركة "إيسوس" ، ثم إتجاهه حنوباً من أجل الإستيلاء على سوريا، وفينيقيا، وفلسطين. بعد ذلك إتجه الإسكندر إلى مصر التي سلمها له الوالي الفارسي دون مقاومة، واستقبله المصريون استقبال الفاتح والبطل المنقذ من الحكم الفارسي الغاشم.

ومن ناحية أخرى كان الإسكندر الأكبر يعرف قيمة مصر كموقع وحضارة وقوة إقتصادية هائلة في ذلك الوقت. ويحدثنا المؤرخ "أريانوس" عن حسن معاملة الإسكندر للمصريين، وزيارته لمعبد الإله "بتاح" في العاصمة "منف"، وتقديم القرابين للآلهة، ويُقال أن الإسكندر نصَّب نفسه فرعوناً حسب التقاليد الدينية المصرية، وفي الواقع فإن المتتبع لرحلة حملات الإسكندر سوف يقف باستمرار عند هذه السُنة التي استنها أثناء فتوحاته في أي مكان أحر غير مصر.

لقد اتجه الإسكندر الأكبر إلى الشمال الغربي وقام بزيارة معبد الإله "آمون" في واحة سيوة، وفي طريقه إلى الساحل غرباً وصل الإسكندر ورجاله إلى قرية كانت تُعرف بأسم "راقودة" مواجهة لجزيرة في البحر تُسمى "فاروس"، وتقع إلى الجنوب منها بحيرة مريوط، في هذا الموقع قرر الإسكندر تأسيس مدينة الإسكندرية، وأمر بأن تكون عاصمة لمصر، ولم يكن يعرف -بل كان يأمل بطبيعة الحال- أن الإسكندرية سوف تصبح حاضرة وعاصمة العالم الهلينستي الذي يؤرخ له منذ وفاة الإسكندر في 323 ق.م.


إقرأ المزيد عن الإسكندر الأكبر

 هل كانت الكوزموبوليتية غاية أخلاقية وسياسية؟

بقطع النظر عن كل ما يُقال من كون الإسكندر الأكبر غازياً استخدم القوة في غزواته، إلا أننا لا نستطيع أن نغفل غاية قصوى كانت تداعب خياله ويريد أن يحققها على أرض الواقع، وهي المزج بين الحضارات فيما يمكن أن نشير إليه بمفهوم "الكوزموبوليتيا" من الناحيتين الأخلاقية والسياسية على السواء.

يتعين أن نشير أولاً إلى المعنى الأخلاقي في مفهوم الكوزموبوليتية الذي تمتد جذوره إلى الفيلسوف الكلبي "ديوجينيس السينوبي" الذي عندما سئل عن موطنه أو جنسيته قال: "العالم" ، وعلى وجه التحديد قال: "أنا مواطن العالم"، وهي إشارة أخلاقية إلى أنه لا فرق بين إنسان وآخر على أساس العرق، أو اللون، أو الدين، أو أي معيارٍ آخر.

لقد طورت الرواقية هذا المفهوم في العصر الهلينستي، وانتشر في أنحاء العالم الهلنيستي والروماني، عندما تبنى الرواقيون في القرن الثالث قبل الميلاد الكوزموبوليتية كدعوة سياسية حافلة بكل المعاني الأخلاقية، فالكون كله بسمائه، وأرضه، وهوائه، وبره، وبحره؛ لكافة المخلوقات دون تمييز بينهم.
 
الفيلسوف اليوناني أرسطو مُعلم الإسكندر الأكبر

والذي يتراءى لنا أن الإسكندر الأكبر حاول أن يجمع بين المعنيين السياسي والأخلاقي لمفهوم الكوزموبوليتيا، ولما كانت السياسة في الفكر الكلاسيكي اليوناني والروماني -لاسيما الفكر الفلسفي- ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأخلاق، على عكس ما يُقال في العصر الحديث والمعاصر من أن السياسة لعبة قذرة، بمعنى أنها خالية من كل مبدأ أخلاقي، ونظراً لكون الإسكندر تلميذاً للفيلسوف اليوناني الشهير "أرسطو" ، فإنه تعلم على يده السياسة والأخلاق كعلمين برز فيهما أرسطو كمنظر ومفكر سياسي فذ، فمما لا شك فيه أن الدعوة إلى عالم واحد أو وطن واحد للجميع فيما يفرضه مفهوم الكوزموبوليتيا كانت من أحلام وآمال الإسكندر، ومن ثم ربما كانت هي الغاية القصوى من فتوحاته العالمية شرقاً وغرباً من أجل عالم واحد، أو تنظيم سياسي واحد، أو وطن واحد، فكان كبير الآلهة المصرية "آمون" في عقيدة الإسكندر السياسية والأخلاقية والدينية هو "زيوس" كبير آلهة اليونان، وهو الإله البابلي "بيلوس"، وهو إله مدينة صور "ملكارت"، وهو الإله الهندي "كريشنا"، فلم يفرق بين إله منهم، وكأنه يرى العالم واحداً، ومن ثم يجب أن يعتمد مشروعه السياسي والعسكري على ترسيخ هذا المعنى وتوحيد العالم، والمزج بين حضاراته في حضارة إنسانية واحدة تُعرف في العصر الحديث بمصطلح "العولمة Globalization" ، وتُعرف في النقلة التاريخية الحضارية من العالم الهلليني إلى العالم الهلينستي بـ "العالمية Universalism"، وتُعرف في المصطلح السياسي والأخلاقي الذي أوجده الكلبيون وطوره الرواقيون بأسم "الكوزموبوليتية Cosmopolitanism".


ابتعد المفهوم الحقيقي لمصطلح "الكوزموبوليتية Cosmopolitanism" عن المعنى العلمي للمصطلح، وأصبح المعنى الشائع هو الإشارة إلى مدينة مشهورة أو عالمية تضم عدداً من الجنسيات المختلفة، مثلما يُقال عن الإسكندرية في العصر الحديث إنها مدينة كوزموبوليتية لأنها تضم مصريين إلى جانب الإغريق والرومان والأتراك والفرس والأفارقة وغيرهم، مثلما يٌقال كذلك عن مدينة مثل "نيويورك"..


google-playkhamsatmostaqltradent