recent
أحدث الموضوعات

الإسكندرية البطلمية - مدينة متعددة الأعراق



كانت الإسكندرية قديماً منذ تأسيسها مدينة متعددة الأعراق، يعيش فيها أجناس مختلفة من البشر، تختلف عاداتهم ولغاتهم.

وكان شعب الإسكندرية في عصر البطالمة يتكون من ثلاث جنسيات رئيسية تُمثل الغالبية العظمى من سكان المدينة:

  1. المصريون المولودن في مصر وتغلب عليهم العصبية وسرعة الغضب.
  2. مواطنو الإسكندرية وهم من أصول يونانية ومقدونية وكانوا يتمتعون بأعلى الامتيازات.
  3. اليهود الذين وفدوا إلى الإسكندرية في فترات زمنية مختلفة.
 مع دخول الإسكندر لمصر، إتخذ من الإسكندرية عاصمة لها، وتبعه في ذلك قائده "بطليموس" الذي أصبحت مصر من أملاكه بعد موت الإسكندر وتقسيم إمبراطوريته فيما بين قادة جيشه.
لم تكن الإسكندرية مجرد عاصمة سياسية لمصر، بل كانت عاصمة حضارية للعالم الهلينيستي بأسره.
وقد ساهمت العديد من الأسباب في جعل الإسكندرية مدينة كوزموبوليتانية متعددة الأعراق، أهمها:

  1. استمرار جلب الجنود المرتزقة من اليونان وجنسيات أخرى مختلفة، تماشياً مع العادة التي كان قد بدأها الملك "بسماتيك الأول" أحد ملوك الأسرة 26 الفرعونية.
  2. توافد التجار اليونان والرومان بشكل كبير، وقيامهم بجلب العمالة الأجنبية معهم لتساعدهم في أنشطتهم التجارية.
  3. جامعة الإسكندرية والمدارس التابعة لها اجتذبت طلاب العلم من جميع أنحاء الدنيا، حيث كانت الإسكندرية هي مركز الإشعاع الحضاري الأكبر في العالم الهلينيستي.
  4. المعابد والمستشفيات في الإسكندرية جذبت البشر من جميع أنحاء الدنيا، سواء للعلاج أو العبادة، فيما يماثل نفس الدور الذي ستقوم به الأديرة والكنائس المسيحية في عصور لاحقة.
  5. جميع العاملين في البلاط الملكي كانوا من الأجانب، وعملوا على استقدام ذويهم وأقربائهم إلى الإسكندرية.

المصريون - العدد الأكبر والطبقة الأدنى

كانت الغالبية من سكان الإسكندرية في عهد البطالمة من المصريين، وكانوا يمثلون الطبقى الأدنى والأقل شأناً في المجتمع، حيث كان منهم الفلاحون والعمال، وأحياناً الجند.

وكما كانت الديانة في مصر القديمة تمثل محوراً هاماً في الحياة السياسية والاجتماعية، فنجد أيضاً في العصر البطلمي أن المعابد بكهنتها وتقاليدها العريقة تُمثل أهمية كبيرة للمصريين.

لذا فإن المعابد وكهنتها كانت دائماً ما تُمثل القوة الأكبر عند المصريين، وكان الآلهة هم الأسياد الحقيقيين لمصر، واعترف جميع الحكام البطالمة بذلك.

ومع تنامي الامتيازات التي كانت تحصل عليها الجاليات الأجنبية في الإسكندرية، تَوَّلد شعوراً بالكراهية الشديدة من المصريين تجاه الأجانب، وبدأت الجريمة تنتشر في المجتمع بفعل الفجوة بين طبقات المجتمع السكندري، وبسبب نظرة التعالي والإزدراء من جانب اليونانيين للمصريين.

ومن المشاهد التي توضح لنا مدى الفوضى والانفلات الأمني في الإسكندرية عام 205ق.م. ؛ حادثة قتل "أجاثوكليس" وعائلته في أعقاب موت "بطليموس الرابع"، والذين كانوا من المقربين لبطليموس الرابع فيلوباتير، وكونوا ثروة ضخمة بسبب ذلك، كما قام أجاثوكليس بنهب الكثير من ثروات القصر فور موت الملك.

تجمهر أهل الإسكندرية بأعداد كبيرة وألقوا القبض على أجاثوكليس وعائلته، واقتادوهم إلى استاد المدينة، وقاموا بقتلهم بطرق بربرية بشعة، وتقطيع أجسادهم.

وفي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد زادت أعداد التجار الرومان الوافدين إلى الإسكندرية، وقد ناصبهم أهل الإسكندرية العداء بشكل واضح، وازدادت تلك الجالية الإيطالية قوة بفعل قدوم "قيصر" إلى مصر وتوطينه حامية عسكرية فيها، مما زاد من كراهية السكندريين للرومان، وقاموا بقتل القائد الروماني "بومبي" ، ثم الحرب ضد قيصر نفسه.

يرى المؤرخ اليوناني "بوليبيوس" أن هذه العدوانية عند شعب الإسكندرية ربما كان لها ما يبررها، حيث كان على المصريين من أهل الإسكندرية الكفاح من اجل لقمة العيش، ضد ما يقارب المائتين من الجنسيات الأجنبية التي أغرقت المدينة، وحظيت بامتيازات كبيرة دوناً عن المصريين.

اليونانيون - مواطنو الإسكندرية وطبقة الصفوة

ترجع العلاقات بين مصر وبلاد اليونان إلى عصور سحيقة، ولكن توافد اليونانيين على مصر زاد بشكل ملحوظ بداية من عهد الملك "بسماتيك الأول" (664ق.م. - 610ق.م.) إما للعمل كجنود مرتزقة لدى الملك المصري في حروبه ضد الفرس والليبيين، أو للعمل بالتجارة، لاسيما وأن مدينة "نقراطيس" (حالياً كوم جعيف / الجيزة) كانت مركزاً تجارياً كبيراً للتجار الإغريق.

اللافت للنظر أنه منذ تأسيس الإسكندرية تمتع اليونانيون والمقدونيون بحقوق أكثر من غيرهم من قاطني المدينة، وقد دلت مقابرهم الجماعية "الكتاكومب" على مواطنهم الأصلية، وطبقاتهم الاجتماعية.

ومع مرور الزمن عمل اليونانيون في الإسكندرية على الترويج لفكرة أنهم الأفضل والأرقى، وعمقوا تلك الفكرة في نفوس المصريين جيلاً بعد جيل، مما سهل عليهم الاستيطان في أماكن أخرى في مصر بخلاف الإسكندرية.

وعلى الرغم من قلة عدد اليونانيين في الإسكندرية مقارنة بعدد المصريين؛ إلا أنهم كانوا المسيطرين على الجيش والإقتصاد والإدارة.

كانت هناك بعض الأمور التي تُبين حدوث إندماج بين المصريين واليونانيين، وعلى وجه الخصوص في الأمور الدينية، حيث قام بعض اليونانيين بتحنيط موتاهم على الطريقة المصرية، كما حدث اندماج بين الآلهة المصرية واليونانية.

اليهود - طائفة صغيرة بامتيازات عظيمة

قام بطليموس الأول "سوتير" بالعديد من الغزوات على فلسطين، وكان دائماً ما يجلب الكثير من الأسرى، وبفعل تلك الغزوات احتل بطليموس فلسطين وجعلها تابعة لمصر، وظلت من أملاك البطالمة قرابة المائة عام.

ومع مرور الوقت وفد إلى الإسكندرية حوالي خمسة آلاف يهودي، وكانت الإسكندرية أرض محببة لليهود، فهي بالنسبة لهم مدينة غنية ومتحضرة.

تركز اليهود بكثرة في الإسكندرية، وكانوا مهتمين بالعلم، وقاموا بترجمة العهد القديم (التوراة) لأول مرة إلى اللغة اليونانية، وكان ذلك في عهد بطليموس الثاني "فيلادلفوس".

مع تولي بطليموس الرابع للحكم (222ق.م. - 204ق.م.) بدأ يتخذ مواقف عدائية تجاه اليهود، ولا يُعرف سبب حقيقي لسلوك الملك تجاه اليهود، ولكنه ربما يكون مجاراةً للشعور العام لدى المصريين، وإعتزازهم بقوميتهم وكرههم للأجانب.

وتظهر عدائية بطليموس الرابع تجاه اليهود في إجباره لهم بدق وشم على أجسادهم عبارة عن رمز الإله "ديونسيوس" اليوناني.

بينما كان بطليموس السادس (180ق.م. - 145ق.م.) على النقيض من بطليموس الرابع، فاليهود حظوا بمودته لهم وتعاطفه معهم، ومع بداية القرن الثاني قبل الميلاد سقطت فلسطين تحت الإحتلال السلوقي، وحدثت بها اضطرابات كثيرة، مما جعل كثير من اليهود يهاجرون إلى مصر.

كانت تلك الهجرات تمثل في الغالب الطبقة العليا في الشعب اليهودي، وبدأ نفوذ اليهود داخل البلاط الملكي البطلمي يزداد، بل وصل نفوذهم إلى الجيش.

وقد برز بشدة نفوذ اليهود في العصر البطلمي خلال النزاع الذي حدث بين بطليموس السابع وكليوباترا الثانية، حيث قام أحد رجال البلاط اليهود ويُدعى "آنيوس" بمساندة حزب كليوباترا الثانية، مما جعل الملكة تصدر قراراً بمنح اليهود حقوق ومزايا لم تكن لهم من قبل.

وفي أثناء ذلك زاد عدد اليهود في الإسكندرية، واستطاعوا أن يحصلوا على حق البناء لمنطقة خاصة بهم لا يسكنها سواهم، كما تم السماح لهم بتكوين جالية رسمية "بوليتوما"، وكان ذلك فخراً كبيراً لهم.

بحصول اليهود على هذا الامتياز العظيم؛ أصبح لهم الحق في أن تكون لهم جالية خاصة بهم، يتحدثون فيها لغتهم، ويقيمون فيها شعائرهم الدينية، وكل ما يتعلق بحضارة اليهود، إلا أنه كان محظوراً عليهم تكوين حزب سياسي.

خلال ما تبقى من عصر دولة البطالمة تأرجحت العلاقة بين الملك واليهود بين الود والعداء، ففي عصر بطليموس الثامن (145ق.م. - 116ق.م.) حدثت صراعات بين زوجاته الملكات، وقرر اليهود الوقوف بجانب كليوباترا الثانية التي تصالحت فيما بعد مع غريمتها، وعلى إثر ذلك أصبح اليهود في حالة عداء مع الملك البطلمي.

بطليموس التاسع (116ق.م. - 107ق.م.) قام بمساعدة الملك السلوقي في حربه ضد اليهود في فلسطين.

أما بطليموس العاشر (101ق.م. - 88ق.م.) فقد ساند اليهود في العديد من المواقف، مما أدى إلى ثورة الشعب السكندري ضده وطرده من الإسكندرية عام 88ق.م.

مع زيادة التدخل الروماني في شئون مصر البطلمية حظى اليهود بدعم أكبر، نظراً للعلاقات الطيبة بين اليهود والرومان، حتى أن اليهود كانت لهم سفارة في روما.

أما عن رأي الشعب المصري آنذاك في اليهود، فنستطيع أن نستخلصه من كلام الكاهن والأديب والمؤرخ المصري الشهير "مانيتون" حين يقول:

"إن اليهود ليسوا بمصريين، بل أغراب، ديانتهم ليست لها معنى، عاداتهم وتقاليدهم لا تُفهم، وفي الوقت نفسه همجية وبربرية، كما أنهم يحتقرون بقية البشر والأديان".

لقد أصبحت الإسكندرية في العصر البطلمي مركزاً لليهود، وأصبح تعداد اليهود في الإسكندرية أكثر من تعدادهم في فلسطين، أو أي بلد آخر.
وحال وصول اليهود إلى الإسكندرية كانوا يتقنون اللغة اليونانية ويتحدثون بها بسرعة مذهلة،  وكان قيامهم بترجمة كتابهم المقدس إلى اليونانية حدثاً كبيراً، ساهم في تفهُم اليونانيين لعقيدة اليهود، وحدوث تقارب في التفكير الفلسفي بين الشعبين.

كانت الإسكندرية في العصر البطلمي عاصمة سياسية لمصر، وعاصمة حضارية للعالم الهلينيستي، مما جعلها مقصداً للبشر من كافة الجنسيات، ولم تكن هناك مشكلة أمام أي حاكم للمدينة أكبر من مشكلة الجمع والتوفيق بين هذه الجنسيات الكثيرة ذات المذاهب والأعراق المختلفة.

google-playkhamsatmostaqltradent