recent
أحدث الموضوعات

فتح قبرص في عهد المماليك 1426م

الصفحة الرئيسية

فتح جزيرة قبرص في عهد المماليك وتحجيم الخطر الصليبي القادم منها

تحملت دولة المماليك منذ نشأتها العبء الأكبر في طرد الاحتلال الصليبي بشكلٍ نهائي من بلاد الشام، فمنذ طردهم من آخر معاقلهم في عكا على يد السلطان الأشرف خليل بن قلاوون عام 1291م، بدأت فلولهم في التجمع في جزر البحر المتوسط، وعلى وجه الخصوص جزيرتي قبرص ورودس، التي أصبحت معقلًا لهم، ومنها ينطلقون لشن هجمات مباغتة على الثغور الإسلامية في مصر والشام، بالإضافة للقيام بعمليات قرصنة متواصلة ضد سفن المسلمين في البحر المتوسط.
حملات الأشرف برسباي على قبرص


ما قبل فتح المماليك لقبرص

كان ملوك قبرص من عائلة لوزينان يظهرون عداءً شديدًا للمسلمين، ويسعون لتكوين تحالفات صليبية جديدة مع ملوك أوروبا لغزو الشام ومصر، ونظرًا للمشاكل والاضطرابات الداخلية التي كانت تعانيها الممالك الأوروبية؛ كان القبارصة يتحركون بمفردهم للهجوم على ثغور المسلمين، وسفنهم.

ولعل أبرز تلك الهجمات، هي الحملة الصليبية القبرصية على الإسكندرية في عام 1365م بقيادة بيير دي لوزينان، أو ما يُعرف بـ وقعة الإسكندرية، حيث قامت تلك الحملة بعمليات تخريب شاملة لمدينة الإسكندرية، بالإضافة إلى قتل وسبي الآلاف من أهلها.
ولم يتوقف الخطر الصليبي عند هذا الحد، بل استمرت الهجمات المماثلة التي تنطلق من قبرص على الثغور الشامية، بالإضافة إلى عمليات قرصنة متواصلة على السفن التجارية الإسلامية في البحر المتوسط.


مثلت الحملة الصليبية على الإسكندرية فاجعة كبيرة لما صاحبها من أعمالٍ وحشية، ولتسببها في اهتزاز الصورة القوية لدولة المماليك، التي يعتمد اقتصادها في الأساس على حركة التجارة التي تمر عبر أرضيها وموانئها، فإذا بأكبر ثغورها على البحر المتوسط يتم استباحته ونهبه من قِبل القبارصة.

منذ تلك الواقعة، عزم المماليك على توجيه ضربة انتقامية لمملكة قبرص، وبرز ذلك في البدء الفوري في تجهيز السفن وبناء الأسطول، إلا أن الرد تأخر لما يقرب من 60 عامًا بسبب حالة الاضطراب الداخلي التي عصفت بدولة المماليك، بالإضافة إلى التعزيزات المتواصلة التي كانت تصل قبرص من مختلف أنحاء أوروبا.

مع تولي السلطان الأشرف برسباي مقاليد الحكم في 1422م لم تتوقف هجمات القبارصة، وأصبحت تمثل إزعاجًا كبيرًا، ففي بداية حكمه، استولى القبارصة على سفينتين من ميناء دمياط وأسروا من كان عليهما، بل إن الأمر أصبح مهينًا حين قاموا بالاستيلاء على سفينة محملة بالهدايا كان برسباي قد أرسلها للسلطان العثماني مراد الثاني، ويُقال أن برسباي سعى لعقد معاهدة مع جانوس ملك قبرص تضمن وقف الهجمات على سفن المسلمين، إلا أن الأخير رفض، وحينها أدرك برسباي ضرورة التحرك للقضاء على هذا الخطر.

حملات السلطان الأشرف برسباي على جزير قبرص

من الواضح أن برسباي كان متأنيًا في أمر غزو جزيرة قبرص، لذا لم يندفع ويقوم بإرسال حملة كبيرة في بادئ الأمر، ولكنه أرسل حملتين لتنفيذ ضربات سريعة، واستطلاع أوضاع الجزيرة، ثم أعقبهما بإرسال الحملة الثالثة الحاسمة التي حققت السيطرة التامة للمماليك على قبرص.

الحملة الأولى (827هـ - 1424م)

كانت حملة صغيرة انطلقت من مصر في رمضان 827هـ بسفينتين محملتين بالأسلحة والعتاد ويقودهما 80 من المماليك السلطانية بالإضافة إلى أعدادٍ من الجنود، وتوجهت الحملة إلى ميناء طرابلس في الشام حيث انضمت لها سفن أخرى.

كان الهدف الرئيسي لتلك الحملة هو القيام بعملية تمشيط في مياه البحر المتوسط، وتوجيه ضربات للسفن القبرصية التي كانت تستعد للقيام بعمليات القرصنة، وبالفعل وصلت الحملة إلى ميناء ليماسول وقامت بإحراق ثلاث سفن قبرصية، وعادت محملة بالغنائم.

الحملة الثانية (828هـ - 1425م)

شجعت النتائج الجيدة للحملة الأولى السلطان برسباي على إعداد حملة أكبر، وبالفعل كانت الحملة الثانية مكونة من نحو أربعين سفينة، تحت قيادة الأمير جرباش الكريمي، وأبحرت من ميناء دمياط في مصر متجهة إلى طرابلس، ومنها إلى قبرص.

بعد بضعة أيام وصل المماليك إلى الجانب الشرقي لجزيرة قبرص، وأرسل جرباش قائد الحملة برسالة إلى ملكها جانوس، يدعوه فيها إلى الاستسلام والدخول في طاعة السلطان برسباي، إلا أنه رفض.

نزل المماليك في ميناء قرباص، وسيطروا عليه تمامًا، وقاموا بعمليات حرقٍ، وأسرٍ، واستولوا على كثير من الغنائم، وسيطروا على ما حولها من المناطق.

ثم توجهت الحملة إلى ليماسول، وقامت بتدمير قلعتها، التي كانت من أشد القلاع تحصينًا في الجزيرة، وأثناء الاستيلاء على ليماسول اتبع المماليك استراتيجية حذرة، وهي إنزال 400 جندي إلى البر، بينما بقيت باقي القوات داخل السفن، وذلك خوفًا من أن يتم تطويق القوات إذا نزلت كلها إلى البر.

أرسل جانوس قوات بقيادة أخيه في محاولة لإيقاف تقدم المسلمين، إلا أنها تلقت هزيمةً ساحقة، مما أغرى جرباش بتحقيق مزيد من المكاسب فأمر بإنزال الخيول من السفن إلى البر، لمواصلة التقدم في باقي نواحي قبرص، وبالفعل واصلت الحملة تدمير وحرق القرى، والاستيلاء على كمياتٍ هائلة من الغنائم والأسرى، ويدل على ضخامتها ما أورده المؤرخ المعاصر لتلك الأحداث ابن تغري بردي في قوله "حتى ضاقت مراكبهم عن حمل الأسرى، وامتلأت أيديهم بالغنائم، وألقى كثيرٌ منهم ما أخذه إلى الأرض".

علم جرباش أن جانوس بدأ يحشد قوات كبيرة، ووصلته إمدادات جديدة من أوروبا، فاستشار من كان معه من الأمراء، واستقر الرأي على العودة بما تحقق من بالغنائم والأسرى، حفاظًا على القوات التي مر على وجودها بالجزيرة قرابة الشهرين، وبالفعل تحركت الحملة عائدة لمصر، بعد أن خلفت أضرارًا كبيرة في كثير من مدن وموانئ قبرص.

الحملة الثالثة (829هـ - 1426م)

على الرغم من النتائج الجيدة التي حققتها الحملة الثانية على قبرص، وعودتها محملة بكميات ضخمة من الغنائم، وأعداد كبيرة من الأسرى، إلا أن السلطان برسباي لم يكن قانعًا بتلك النتائج، فهو كان يهدف في الأساس إلى إخضاع الجزيرة، وفرض سيطرته عليها بالكامل، ولذلك عزم على ارسال حملة كبرى، لإخضاع قبرص بالكامل، والقضاء على أي جيوب صليبية فيها.

وكان مما زاد من عزم السلطان على تنفيذ تلك الحملة، هو ما ورد إليه من أنباء طلب جانوس ملك قبرص المدد من ملوك أوروبا، من أجل الهجوم على الثغور الإسلامية؛ دمياط، والإسكندرية، وطرابلس، وبيروت.

كانت هناك حالة من الاستنفار الكبير في صفوف أمراء المماليك، ورغبة شديدة في الجهاد، وفتح جزيرة قبرص، وأزدحم الناس بشدة عند كتَّاب المماليك، لتسجيل أسمائهم، وحجز مكان على سفن الحملة المرتقبة.

احتشدت السفن في ساحل بولاق، وبدأت بالتوجه إلى مينائي دمياط والإسكندرية، ثم تجمعت في رشيد من أجل الإقلاع بإتجاه قبرص.

كانت الحملة مكونة من 180 سفينة، ويقودها الأميران إينال الجكمي مقدمًا للعساكر في المراكب بالبحر، و تغري بردي المحمودي مقدمًا للعساكر في البر.

وصل المماليك إلى ليماسول وأعادوا تدمير حصنها، وغنموا غنائم كبيرة، وبينما هم يواصلون سيرهم في أراضي قبرص، خرج لهم جانوس على رأس جيشٍ ضخم من الفرسان، والتقى الجمعان في معركة فاصلة، تُعرف بمعركة خيروكيتيا Khirokitia في موقع بين نيقوسيا وليماسول، وأسفرت المعركة عن هزيمة ساحقة للقبارصة، ووقوع ملكهم جانوس أسيرًا في أيدي المماليك.

بعد الانتصار الكبير، أصبح الطريق ممهدًا نحو نيقوسيا عاصمة قبرص، فتجمعت كل قوات المماليك البحرية والبرية، واستلم الأمير تغري بردي ملك قبرص الأسير.

دخلت قوات الحملة نيقوسيا، وأخضعتها كما أخضعت غيرها من مدن قبرص، وتم إعلان تبعية الجزيرة بالكامل للسلطان برسباي، ومكثت القوات أسبوعًا بالجزيرة، وأقامت فيها شعائر الإسلام، ثم ركبت السفن عائدة لمصر، تحمل غنائم هائلة، و 6000 أسير، على رأسهم جانوس ملك قبرص.


استقبال الحملة في مصر

فور وصول أنباء ذلك الانتصار الكبير للديار المصرية، فرح السلطان فرحًا عظيمًا، حتى إنه كان يبكي من شدة الفرح، وصار يكثر من الحمد والشكر لله، وسادت القاهرة وسائر المدن المصرية، حالة من البهجة، ونظم الشعراء القصائد في ذلك الفتح الكبير، وتزينت الشوارع استعدادًا لاستقبال الفاتحين.

وصل الفاتحون إلى القاهرة في شهر شوال، واصطف الناس في الشوارع لتحيتهم بالتهليل والتكبير، ثم توجهوا إلى القلعة، حاملين ما جلبوه من الغنائم والأسرى، وكان في مقدمتهم كبار الأمراء والفرسان، وسيق جانوس ملك قبرص ذليلًا مكبلًا في أغلاله، على ظهر حمار، حتى وصل إلى السلطان الأشرف برسباي، وقبَّل الأرض بين يديه، وألتمس منه العفو، وكان في مجلس السلطان في ذلك الوقت، وفد من السلطان العثماني للتهنئة بذلك النصر الكبير، بالإضافة إلى ملك تونس، وشريف مكة.

أصر السلطان برسباي على أن يدفع ملك قبرص خمسمائة ألف دينار يفتدي بها نفسه، وإلا قتله، ومع توسلات الأخير، ووساطات من جانب بعض القناصل الأوروبيين الموجودين في مصر، تم تخفيض الفدية إلى مائتي ألف دينار، يدفع الوسطاء منها مائة ألف، ثم يدفع جانوس المائة الأخرى فور عودته لبلاده، كما تقرر أن تدفع قبرص جزية سنوية تُقدر بخمسة آلاف دينار، على أن تبقى أرضًا تابعة لسلطان المماليك، ويكون ملكها نائبًا عن السلطان في حكمها.

ظلت قبرص تابعة لسلطنة المماليك، وتدفع الجزية سنويًا، حتى سقوط دولتهم في 1517م على يد السلطان العثماني سليم الأول.





google-playkhamsatmostaqltradent