recent
أحدث الموضوعات

مصر في عهد البطالمة (3) - بطليموس الأول ملكًا على مصر

بطليموس الأول سوتير ملكًا على مصر

بعد موت الإسكندر الأكبر بشكلٍ مفاجئ في بابل، اندلعت صدامات دموية بين خلفائه للسيطرة على مملكته الشاسعة، وقد تلقى بطليموس حاكم مصر ضربة جديدة، بعد أن مُني بهزيمةٍ ساحقة في معركة سلاميس البحرية 306 ق.م. على يد ديمتريوس ابن أنتيجونس، الرجل الأقوى على مسرح الأحداث في ذلك الوقت.
بطليموس الأول سوتير ملكًا على مصر


(1) - بداية دولة البطالمة في مصر



خطر أنتيجونس لم ينتهِ بالهزيمة في سلاميس

بمجرد وصول أنباء الانتصار الكبير في سلاميس، والسيطرة الكاملة على جزيرة قبرص، أدرك أنتيجونس أن نفوذه في شرق البحر المتوسط أصبح لا يُضاهى، لذا بادر بإعلانٍ جريء وهو تسمية نفسه ملكًا، وابنه ديمتريوس شريكًا في الحكمِ ووليًا للعهدِ.
وكان أنتيجونس يحاول أن يفرض أمرًا واقعًا على خصومه من خلال ذلك الإعلان، مفاده أنه الأحق بوراثة عرش الإسكندر، خاصة بعد مقتل أخر وريث شرعي في عائلة الإسكندر عام 309 ق.م.، إلا أن باقي الولاة لم يتقبلوا هذا الأمر، وبادر كلٌ من بطليموس وكاسندر وليسيماخوس وسيلوقس بإعلان أنفسهم ملوكًا على ولاياتهم.

بعد الضربات المتلاحقة التي تلقاها بطليموس، والتي كان أخرها خسارة جزيرة قبرص، رأى أنتيجونس أن الوقت بات مناسبًا لغزو مصر، والقضاء تمامًا على خصمه، فحشد جيشًا هائلًا وصل عدده إلى 90 ألف وسار به عبر سوريا ثم فلسطين قاصدًا مصر، مصحوبًا بأسطول يقوده ابنه ديمتريوس يتحرك بمحاذاة الساحل، في خطٍ متوازٍ مع الجيش.

على الرغم من ضخامة جيش أنتيجونس إلا أنه واجه مشاكل عدة في طريقه نحو مصر، حيث تعرض لهجمات كثيرة من الأنباط القادمين من الجنوب، تسببت في استنزاف طاقته، وبعد أن عبر الجيش غزة، كان فصل الشتاء قد حلَّ، وتسببت شدة الرياح في صعوبة الربط بين شطري الجيش البري والبحري؛ ومع كل تلك المصاعب وصل أنتيجونس إلى الفرع الشرقي من دلتا النيل بالقرب من الفرما، ليواجه دفاعات بطليموس التي كانت متمركزة ومستعدة بشكلٍ جيد.
مع صعوبة اختراق الدفاعات البطلمية، أمر أنتيجونس ابنه بإنزال قوات الأسطول على الساحل القريب من المنزلة، ولكن ديمتريوس فشل في ذلك وواجه مقاومة شديدة أجبرته على التراجع.

أيقن أنتيجونس صعوبة إتمام المهمة، ومع حالة الإنهاك التي أصابت جيشه، خاف أن يلقى نفس مصير برديكاس خلال محاولته المماثلة لغزو مصر قبل سنواتٍ قليلة؛ ففضل التراجع شرقًا والابتعاد بجيشه عن الحدود المصرية.

أما ديمتريوس قائد الأسطول فتوجه نحو جزيرة رودس وضرب عليها حصارًا استمر لأكثر من سنة، وفشل في الاستيلاء عليها، بسبب الدعم المتواصل من بطليموس لأهل الجزيرة، وكان ذلك سببًا في أن لقبوه بالمنقذ أو المخلص "سوتير".

تحالف رابع وعدو جديد

نجح بطليموس في النجاة مرة أخرى من خطرٍ عظيم، كاد أن يقضي على طموحاته بتأسيس المملكة البطلمية على أرض مصر، ورأى هو وباقي القادة في 303 ق.م. ضرورة عقد تحالف جديد، بعد تعاظم خطر أنتيجونس عليهم، وتواصل أطماعه التوسعية على حسابهم، لذا تم التحالف بين بطليموس حاكم مصر، وسيلوقس حاكم بابل، وليسيماخوس حاكم آسيا الصغرى، وكاسندر قائد الجيش العام في مقدونيا؛ وكان الغرض الواضح من هذا التحالف هو الحد من أعمال أنتيجونس التوسعية، بل والعمل على القضاء عليه.
ومع ذلك نجد أن بطليموس كان في غاية الحذر، ورأى أن يستولي فقط على فلسطين، لأهميتها القصوى كبوابة شرقية لمصر، وفي الوقت الذي كان فيه بطليموس يستولي على فلسطين للمرة الثالثة؛ كان القادة الآخرون يحاربون أنتيجونس في آسيا الصعرى، وانتصروا عليه في معركة إبسوس 301 ق.م.، التي قُتِل فيها أنتيجونس.

ومن الغريب في ذلك الوقت وصول شائعة إلى بطليموس مفادها أن أنتيجونس هو الذي انتصر على الحلفاء، وأنه قادم في طريقه إلى فلسطين، مما جعل بطليموس يقوم بإخلاء فلسطين والرجوع إلى مصر، وكانت النتيجة هي قيام الحلفاء الثلاثة بإعطاء سوريا وفلسطين لسيلوقس بجانب بابل التي كان يحكمها، إلا أن بطليموس لم يقبل بذلك التقسيم، واستولى على فلسطين وسوريا، بالمخالفة للمعاهدة التي أبرمها الحلفاء، ومن هنا نشأ العداء بينه وبين صديقه القديم سيلوقس، واستمر ذلك العداء ممتدًا حتى نهاية الدولة البطلمية.

سياسة بطليموس الأول الداخلية

منذ تعيينه والياً على مصر، واجه بطليموس تحديات خارجية هائلة، استطاع أن يتجاوزها، وساعدته الظروف على ذلك، أما في الداخل، فقد أظهر بطليموس براعة كبيرة في التعامل مع الشعب المصري، فلم يتبع معه نهجًا عنيفًا، ولم يحاول فرض اعتناق العقائد والعادات الإغريقية.

الحياة الدينية في عهد بطليموس الأول

من الواضح أن بطليموس الأول كان يحاول أن يسير على نفس نهج الإسكندر المقدوني، من حيث التظاهر باعتناق الديانة المصرية، فالإسكندر قد إدعى أنه ابن الإله "آمون رع" كبير الآلهة في مصر القديمة.
وقد أيقن بطليموس مدى الأهمية التي يتمتع بها الكهنة في مصر، وطاعة الشعب العمياء لهم، مما جعله يعمل على ارضائهم، واحترام معبوداتهم.
ومن الملاحظ أنه خلال الفترة التي كان فيها بطليموس والياً على مصر، وتابعًا للملكين الاسميين فيليب أرهيدايوس والإسكندر الرابع، اعترف بكلٍ منهما فرعونًا على مصر، كما تشير بعض اللوحات والآثار الباقية التي تعود لعهدهما، وفي ذلك دلالة على احترامه لتقاليد وموروثات المصريين، الذين لا يمكن أن يعيشوا دون فرعون يحكمهم، ويُشار إليه بالألقاب والأوصاف الإلهية.
مع تنصيب بطليموس الأول فرعونًا حسب التقاليد المصرية في 304 ق.م.، فكر في طريقة لاستمالة المصريين واليونانيين على حد سواء، فاخترع -بمشورة من مستشاريه من الكهنة- إلهًا جديدًا يجمع بين الإله المصري أوزوريس واليوناني ديونسيوس، وسُمي الإله الجديد "سيرابيس" ، وعرفه المصريون باسم أوزير-حابي، ومعناها الثور أبيس المتوفى، وعرفه اليونانيون باسم أوزوريس-أبيس.

بنى بطليموس المعابد الكبيرة لهذا المعبود الجديد، الذي أصبح معبودًا رسميًا للدولة البطلمية.

ثالوث الإسكندرية
على طريقة فكرة الثالوث الشائعة في آلهة مصر القديمة، تم تكوين ثالوث الإسكندرية الجديد من الإله سيرابيس الذي أشرنا إليه، والإلهة المصرية إيزيس، وابنهما حربوقراط.

(1) سيرابيس
اختلفت روايات المؤرخين حول أصل الإله سرابيس، وانتسابه لمنطقة بعينها، ولكن الراجح هو أن سيرابيس عبارة عن صورة من الإله المصري أوزوريس مع إضافة بعض الملامح الهلينية.

(2) إيزيس
كانت إيزيس في الديانة المصري القديمة أخت وزوجة لأوزوريس، وأنجبت من روحه الطفل حورس، وكان يُرمز لها بالأرض، التي يمدها النيل (أوزوريس) بالخصوبة، وبما أن سيرابيس صورة من أوزوريس، فمن الطبيعي أن تكون إيزيس هي زوجته في ظل تلك الديانة الجديدة.

(3) حربوقراط
الإله الثالث ضمن ثالوث الإسكندرية هو الإله حورس الطفل، أو "حربوقراط" كما لقبه الإغريق، وكان على رأس الآلهة الحامية لمدينة الإسكندرية، ومحببًا إلى عامة الشعب، وشبهه اليونانيون بإلههم أبوللو إله الشمس والنور والشباب.

ومن الواضح أن محاولة بطليموس الأول في تحقيق الارتباط بين المصريين واليونانيين من خلال تلك الديانة الجديدة لم تحقق النجاح المنشود؛ فالشكل الذي قُدِّمت به آلهة تلك الديانة للمصريين اختلف عن الشكل الذي قُدِّمت به لليونانيين، فالمصريون نظروا إليها على أنها آلهة مصرية، لم يطرأ عليها التغيير إلا في المظهر، بينما نظر إليها اليونانيون على أنها آلهة يونانية.
وفي الحقيقة كان لاختراع تلك الديانة الجديدة أهداف سياسية أراد بطليموس الأول تحقيقها، من خلال استمالة العنصرين الأهم في المجتمع (المصريون واليونانيون)، بجانب تقويض نفوذ كهنة الآلهة المصرية التقليدية مثل آمون-رع.

تأليه الحكام وعبادتهم بشكلٍ رسمي
كان تأليه الحكام عبادتهم بشكلٍ رسمي مظهرًا من مظاهر الديانة في مصر القديمة، ولعل ذلك كان من الأسباب التي جعلت الإسكندر يستخدم دعاية سهلت عليه دخول مص دون حرب، من خلال الإشارة لنفسه على أنه ابنًا للإله آمون.

وقد نالت عبادة الإسكندر أهمية كبيرة، حتى قب نقل جثمانه إلى الإسكندرية.

ولما كانت عبادة الحاكم تستلزم أن يكون من سلالة آلهية، إدعى بطليموس الأول أنه من نسل الإله زيوس، الذي كان يضعه على ظهر العملة مقترنًا بالإله آمون.

ويتضح أن بطليموس الأول لم يُعبد أثناء حياته، على الرغم من اتخاذه ألقابًا إلهية، ولكنه عُبِد خلال عهد ابنه بطليموس الثاني فيلادلفوس، الذي أسس عبادة أبيه رسميًا، ثم أصبح تأليه الملوك والملكات أمرًا متعارفًا عليه بعد ذلك طوال العهد البطلمي.

سياسة بطليموس الأول الإدارية

جعل بطليموس الأول مدينة الإسكندرية مقرًا لحكمه، وبنى فيها القصور الملكية، واقتدى بالإسكندر في ترك المصريين حكامًا على الأقاليم، ولكنه قام بتعيين قائد حربي يوناني Strategos في كل إقليم، كانت له صلاحيات عسكرية ومدنية أيضًا، وبمرور الوقت أصبح رئيسًا على حاكم الإقليم.

أعطى بطليموس المناصب المالية العليا لليونانيين، وكان أكبر موظف على رأس الإدارة المالية يُسمى ديوكيتيس Dioketes وهو ما يُشبه وزير المالية.

النظام القضائي

نظرًا لوجود العنصر اليوناني في مصر بصورة كبيرة خلال حقبة البطالمة، كان هناك نوعان من القوانين، هما القانون المصري، والقانون اليوناني، وبالتبعية وجود محاكم أهلية مصرية، ومحاكم يونانية.

كانت القضايا المدنية بين المصريين ينظر فيها قضاة مصريون، بحسب القوانين المصرية القديمة، وكانت عقودهم تُكتب بالديموطيقية، وفي عهد بطليموس السادس كان لابد من كتابة ملخص للعقد باليونانية حتى يصبح نافذًا.

أما القضايا الجنائية أو القضايا التي يكون أحد الطرفين فيها يونانيًا، فكانت تُنظر أمام المحاكم اليونانية، ويفصل فيها القضاة اليونانيون، بموجب القانون اليوناني.

النظام العسكري

شهدت الفترة التي تولى فيها بطليموس حكم مصر صراعات دموية بين خلفاء الإسكندر، وكان بطليموس الأول مجبرً على الانخراط في حروبٍ عدة، فكان من الضروري أن يكون جيشًا وأسطولًا قويين، واعتمد بطليموس بشكلٍ شبه كامل على المرتزقة اليونانيين والمقدونيين، وكوَّن منهم جيشًا كبيرًا، فكان يمنحهم مرتباتٍ عالية، ويقطعهم الأراضي، حتى يضمن ولاءهم له.

الحالة الثقافية في عهد بطليموس الأول

سعى بطليموس الأول لجعل الإسكندرية مركزًا للاشعاع الحضاري، وقبلة للعلماء والأدباء والفلاسفة، فأنشأ دار الكتب والمتحف، وسهل للعلماء من كافة بقاع الأرض سبل الإقامة في الإسكندرية، التي أصبحت عاصمة للعلم والثقافة في ذلك الوقت، وأكبر المراكز الحضارية الهلينستية.
أسس بطليموس مدينة في الوجه القبلي عُرِفت باسم بطلمية Potlemias وتقع بالقرب من مدينة جرجا الحالية، وذلك بهدف نشر الثقافة اليونانية في صعيد مصر، وكانت تلك المدينة تخضع للملك رأسًا، وليس لحاكم الإقليم، وشهدت نهضة فنية ومسرحية كبيرة.

هل شيد بطليموس الأول منارة الإسكندرية؟

أصبحت الإسكندرية في عهد بطليموس الأول سوتير ميناءً تجاريًا عالميًا، مما دعى بطليموس لتشييد منارة الإسكندرية، لإرشاد السفن.

يوجد خلاف بين المؤرخين حول العهد الذي شُيدت فيه منارة الإسكندرية، وهل كان عهد بطليموس الأول أم بطليموس الثاني، ولكن الراجح أنها شُيدت في عهد بطليموس الأول لأن الذي بناها كان المهندس سوستراتوس، الذي كان من ضمن حاشية بطليموس الأول.

كانت منارة الإسكندرية إحدى عجائب الدنيا القديمة، وتم تشييدها على جزيرة فاروس، في الموقع الحالي لقلعة قايتباي، وكان ارتفاعها يبلغ 600 قدمًا، ونورها يُرى على بعد 30 ميلًا، وكانت مكونة من ثلاث طبقات، السفلى مربعة الشكل، والوسطى مثمنة، والعليا مستديرة يعلوها تمثال من البرونز، يمثل الإله بوسايدون.

تهدمت المنارة تمامًا بفعل زلزال مدمر في عام 1307م.

وفاة بطليموس الأول

في أواخر عهد بطليموس الأول، وتحديدًا في 285 ق.م. أشرك ابنه بطليموس الثاني فيلادلفوس معه في الحكم، وتنازل له عن الملك قبل وفاته، حتى يضمن تمكينه من العرش، وقد كان يرى فيه امتدادًا لرؤيته الخاصة بصبغ مصر بالصبغة اليونانية.

تُوفي بطليموس الأول في 282 ق.م. عن عمرٍ ناهز 85 عامًا، قضى ما يقرب من 40 عامًا منها في حروبٍ طاحنة، خاضها من أجل تحقيق ما كان يصبو إليه، من أقامة مملكته على أرض مصر وتوريثها لأبنائه.

التالي:
google-playkhamsatmostaqltradent